






عندما إكتشف الغاز الأرضي في أواخر القرن الماضي في الدلتا المصرية إستبشرت الحكومة اخيرا،وخاصة وزارة الكهرباء التي كانت تواجة الصعاب في الحصول على النقد اللازم لشراء المازوت وهو الوقود التقليدي لمحطات الكهرباء حيث انه أرخص أنواع البترول،فهو الزيت الثقيل الذي لا يصلح لتيسير السيارات لأن انبعاثات حرقه من الحبيبات الدقيقة وغاز ثاني اكسيد الكربون ملوثة للغاية.
وصرحت وزارة البترول أن الأحتياطي يكفي 32 سنة قادمة، وكان هذا الرقم بدا لها كبيرا، فبدأت في تصدير الغاز الطبيعي إلي الأردن وإسرائيل ، وسارعت وزارة الكهرباء إلي تغيير الوقود المستعمل في محطات توليد الكهرباء من المازوت إلي الغاز ،واستلزم ذلك مد أنابيب خاصة للغاز ووضع معدات موقد للغاز في الغلاية البخارية المستخدمة ، لان غلاية المازوت تصلح في أغلب الاحوال لتحويلها إلي حرق الغاز , وكانت الاستثمارات المطلوبة لهذا التحويل تكون محدودة بتكلفة مد انابيب الغاز .
ولما كان متواسط التزايد في الطلب علي الكهرباء 60% في ذلك الوقت مما يحتم علي وزارة الكهرباء التخطيط لشراء وتركيب محطات كهرباء جديدة لمواجهة هذا التزايد ،فقد رأت الوزارة أن تتوجة إلي شراء محطات تعمل بالدورة المركبة لأن كفاءتها تصل إلي 55% مقارنة بكفاءة محطات المازوت التي تتراوح بين 33 و38% والدورة المركبة تتكون من نمطين لتوليد الكهرباء من المولد،فيحرق الغاز لدفع تربينتين غازيتين تولدان الكهرباء من المولد المتصل بها وتخرج عوادم الغاز من التربينتين إلي مبادل حراري لاستغلال الحرارة الباقية في هذه العوادم لتسخين مياه لتحويله إلي بخار يدفع بدوره تربينة بخارية لها مولد كهربائها الخاص وبما ان الدورة الاولي تبدأ بتربينات غازية فهي لا تعمل إلا بالغاز ،لذلك لم يكن استخدامها قبل ذلك ممكنا بسهولة .
في ذلك الوقت أي في أوائل هذا القرن، كانت تتوالي تصريحات وزارة الكهرباء عن تحويل هذه المحطة أو تلك إلي استخدام الغاز وكان هذه التصريح دائما مقروناً بعدد أطنان ثاني أكسيد الكربون الذي يوفره هذا التحويل إلي الغاز، والشبب في ذكر ثاني اكسيد الكربون دون غيره من الملوثات التي تصحب كل عملية حرق، هو أن تقارير الأمم المتحدة بدأت تتوالي عن التأثير الضار لهذا الغاز عند زيادته عن النسب الطبيعية في أعالي طبقات الجو، وهو زيادة الإحتباس الحراري الذي يؤدي إلي ذوبان ثلوج القطبين وبالتالي ارتفاع سطح المحيطات وما يتبعه من غرق المدن الساحلية مثل الإسكندرية والمشروعات المتناهية في الإبداع مثل نخلة الجميرة في الخليج .
وتزامنت هذه الأحداث مع إجراء بدأ عام 1998 بدعم الوقود بكل انواعه ودعم الكهرباء ايضاً فكان نصيب الكهرباء دعمين أحداهما للوقود الذي تحرقة والثاني للكهرباء المنتجة. وبدأ هذا الدعم بملغ إجمالي مليارين من الجنيهات ومن البديهي أن الدعم يشجع علي استهلاك السلعة المدعومة فتزياد استهلاك الكهرباء وكذالك استهلاك الوقود السائل والغازي وبالتالي زاد المبلغ المخصص للدعم في مزانية الدولة حتي وصل في عام 2007 إلي 120 مليار جنية دون أن تتخذ الحكومة أي إجراء لمعالجة ذلك الخلل، خاصة وأن تزايد الإستهلاك تطور إلي تبذير في الموارد من كل المنتفعين بالدعم بداية من المواطن الذي يترك أنوار مسكنة مضاءه وهو غير موجود إلي المستثمر الأجنبي الذي أغراه رخص الطاقة في مصر فأتي ليستثمر ولم يأبه بصيانة معداته أو تجديدها لأنها ستكلفه أكثر من الوقود الرخيص الذي تحرقه .
ومع أن وزارة الكهرباء جاهدت جدها تشكر عليه لشراء المزيد من محطات الكهرباء لتلبية الطلب المتزايد الذي كاد يصل تزايده السنوي إلي 10% وكانت المحطات الجديدة بطبيعة الظروف السائده تعمل بالعاز الطبيعي ، إلا ان تزايد الإستهلاك إضافة إلي تعاقدات تصدير الغاز فاقت إنتاج حقول الغاز ،مما جعل وزارة الكهرباء تحول بعضا من محطاتها إلي استخدام المازوت ،الامر الذي تسبب في أعطال من نوع جديد بسبب البقايا اللزجة لاحتراقه . وبدأت أزمات انقطاع الكهرباء في عام 2008 وكانت تتزايد كل سنه لاسباب مختلفه, منها الإضطرار لعمل الصيانة في الصيف هو فصل زيادة الطلب على الكهرباء ،ومنها عدم وصول اللغاز إلي المحطة رغم اللجوء إلي استيراد الغاز .
وقبيل ثورة يناير عام 2011 بدأت وزارة الكهرباء في التمهيد لإستخدام الفحم في إنتاج الكهرباء لأن مستشاريها الاجانب قالوا إنه أرخص أنواع الوقود ، وبذلك يتوافق مع الرغبة في تقديم الكهرباء بأرخص تلكفة لضغط الددعم . وبالطبع فإن كل العاملين في هذه الوزارة يعلمون أن انبعاثات ثاني اكسيد الكربون من حرق الفحم ضعف مثيلاتها من حرق الغاز قياسا على نفس مقدار الكهرباء المنتجة . ومع ذلك استمروا في بحث موضوع الفحم وتناسوا أقوالهم السابقة عن إنجازاتهم عندما استبدلوا المازوت الملوث بالغاز النظيف نسبيا ولم يذكروا أن الفحم اكثر تلوثا من المازوت .
وبعد ثورة 30 يونيو عام 2013 وإعلان دستور 2014 الذي ينص مادته رقم 32 على أن تلتزم الدولة باستخدام الطاقات المتجددة ،ويلاحظ هنا لفظ الإلزام الذي لا يترك مجالا للنقاش نجد أن الوزارة مصممة علي استخدام أكثر أنواع الوقود تلويثا مع انه غير متوفر ويجب استيراده وبدأت استعمال تعبير “الفحم النظيف” و” تكنولوجيا الفحم النظيف” دون شرح محتوي هذه التعبيرات ولو وجد هذه الفحم أو هذه التكنولوجيا لاستعملتها المانيا بدلا من إغلاق محطاتها الفحمية ولإستغناء عن موارد الفحم المتوفرة في أراضيها .
وفي نوفمبر عام 2015 قدمت الحكومة المصرية ورقه تعهدها بحماية المناخ من انبعاثات الغازات المسببه للاحتاس الحراري وأهمها هو ثاني ثاني اكسيد الكربون إلي مؤتمر المناخ في باريس وتعهدت فيها بعدم استخدام الفحم طالما وجد عندها وقود أقل ضررا ولم يتمر عام حتي اكتشف حقل “ظهر” في البحر البيض المتوسط لذلك كان من واجب وزارة الكهرباء وهي جزء من الحكومة المصرية أن تحترم تعهدها وتوقف كل مباحثاتها عن محطات فحمية . ولكن هذه المحادثات استمرت إلي ان تمخضت عن التعاقد مع تحالف شركات ضيني علي بناء محطة كرباء “الحمراوين” الفحمية على ساحل البحر الأحمر وتقع على بعد حوالي 170 كيلو مترا شمال غربي المنتج السياحي “مرسي علم” علما بأن الرياح في مصر يغلب عليها الاتجاه الشمالي الغربي مما سيجعل هذه المنتجع السياحي يتلقي غالبية انبعاثات المحطة من غازات دفيئة واتربة ذات حبيبات متناهية الدقة تفشل ادق الفلاتر في حجزها . وهكذا تقضي محطة “الحمراوين ” الفحمية علي واحد من أجمل المنتجعات السياحية وتتسب في خسارة أكبر بمراحل عن الوفر المنتظر من استخدام وقود يقال عنه انه رخيص .
وإذا نظرنا إلي دولة أخري تقدم العون الفني لمصر في بناء محطة المحطة الفحمية وهي المانيا وخبراؤها من ضمن باقة المستشارين الأجانب الذين تفخر وزارة الكهرباء بأنهم اعانوها على اتخاذ هذه الخطوة التي يري فيها كاتب هذا المقال أنها ستسبب الخسارة المؤكدة للمستثمرين نجد انها تأخذ سياسة عكسية تماما لهذه الاتجاه . ففي 26 يناير 2019 قررت اللجنة التي كلفتها الحكومة الألمانية ببحث موضوع التخارج من إنتاج الكهرباء من الفحم أن تغلع كل محطات الفحم في المانيا تدريجيا على أن تغلق اخر محطة في عام 2038 . وتوصلت اللجنة لحل وسط رضيت عنه كل الأطراف المعنية بعد التفاهم على التعويضات التي تدفع للمتضررين من هذا الإجراء والتي قدرت بـ42 ميلار يورو وهم اصحاب شركات الكهرباء التي تملك المحطات ونقابات العاملين بها وحكومات المقاطعات التي بها هذه المحطات لأنها ستقوم بإنشاء وظائف جديدة للعاملين السابقين في محطات الكهرباء وهذه الوظائف الجديدة ستكون في مجال الطاقات المتجددة لستد الفجوات المنتظرة في الإمداد الكهربي الناتج عن إغلاق المطات الفحمية التي كانت تمثل 48% من القدرة الكهربية المركبة في المانيا أي ان تكنولوجيا الفحم تنسحب لتفسح المجال لتكنولوجيات الطاقات المتجددة .
بسبب اتجاه العالم إلي بدائل المحروقات لإنتاج الكهرباء ووضوح أن الفحم هو أول هذه المحروقات التي ستستبدل بدأت قيمة اسهم كبري شركتين لأنتاج وتوزيع الكهرباء في المانيا _ وكانتا اكبر مستخدم للفحم_ في الهبوط فنزلت قيمة سهم شركة RWEمن حوالي 97 يورو إلي 11 يورو في عام 2015 وشركة EON من 48 يورو في عام 2007 إلي 6 يورو في عام 2016 أي ان كل منهما خسرت أكثر من 80% من قيتمها مما يؤكد الاتجاة العالمي في نبذ الفحم . وفي نفس الفترة الزمنية ارتفعت اسهم الشركات الجادة التي تصنع معدات الطاقة المتجددة وتلك التي تقدم خدمات ترشيد استخدام الطاقة وزياردة كفاءة استعمالها ويلاحظ أن الإجراء الاخير -الترشيد- بدأ يحمل بشائر نجاحه في مصر الأن حيث أهل الصيف وهو زمن الزيادة في استخدام الكهرباء ,ومع ذلك ينخفض الاستهلاك الكلي للكهرباء بدلا من الارتفاع المنتظر مما حدا بالمسؤولين إلي إيقاف ثلاث محطات غازية عملاقة بقدرة 1480 ميجا وات لعدم الحاجة إليها مع أن هذه المحطات جديدة وكفاءتها 61% وهي أعلي كفاءة لغير المحطات المعائية.
في هذه الظروف ، تبرز مجموعة من التساؤلات :
– ما المبرر لبناء محطتين في “الحمراوين”و”عين موسي” إحداهما 6000 ميجا وات والأخري 2640 ميجاوات في حين ان محطات عالية الجودة بقدرات 1480 ميجا وات تغلق؟ ومن سيدفع التعويضات لو تقرر الاستغناء عن المحطين الفحميتين بعد فترة نتيجة ضغط المجتمع الدولي ؟
– في السنوات العشر الماضية تذبذب سعر الفحم في السوق العالمية بين 40 و80 دولار للطن فأي ضمانات تعطي للتعاقد علي سعر مقبول للكهرباء ؟
– لقد اثبتت المحطات الشمسية الحرارية ذات التخزين الحراري أنها تستطيع أن تحل مكان المحطات الفحمية في أدائها حتي في الظروف الإستثنائية مثل السحب الكثيفة أو الخماسين وتنتج الكهرباء بنفس سعر الكهرباء الفحمية . فلماذا لا يستثمر في هذه المستقلة عن تذبذب اسعار الوقود وهي بذلك مضمونة الربح للمستثمر؟
– إن المحطات الشمسية الحرارية التي يمكنها العمل في مصر والبلاد العربية بكفاءة لا تصلح في اوروبا لأن شمسها لا تستطع بالقدر الكافي إذن ما هي الطاقات المتجددة التي ستستعملها المانيا بدلا من الفحم ؟ لقد اثبتت الطاقات المتجددة المتاحة في المانيا انها لا تستطيع تلبية متطلبات مجتمعها المدني الصناعي لتقلبها العشوائي وأن تخزين الطاقة لا مفر منه ،فما العمل وتكنولوجيات التخزين المتاحة لا تصلخ لتخزين كهرباء بالكميات المطلوبة ؟.
كاتب المقال هاني محمود النقراشي خبير عالمي في الطاقات المتجددة – عضو المجلس الإستشاري الرئاسي لعلماء وخبراء مصر