خلال مشاركتي في دورة إعداد القادة بوزارة الكهرباء بالقاهرة عام 2000، التي نظّمتها الجامعة الأمريكية، استوقفتني عدة مفاهيم كانت بمثابة إجابات للعديد من التساؤلات التي لطالما راودتني منذ بداية مسيرتي المهنية في عام 1984. كان هذا البرنامج نقطة تحول في فهمي للإدارة ودورها المحوري في قيادة المؤسسات نحو النجاح والاستدامة.
اقتنعت حينها أن التدريب والتأهيل المستمر من أهم الأدوات لتمكين الفرق من تحقيق التحول المؤسسي، لذلك كرّست جهودي لنشر الفكر القيادي المستند إلى أسس علمية وإدارية في مختلف أنحاء البلاد. ومن بين الأفكار التي أثّرت فيّ بعمق، كان مفهوم “البرادايم” (Paradigm) وتأثيره على متخذي القرار، وبالتالي على أداء المؤسسات ككل.
الإدارة المؤسسية: ركيزة النجاح في عالم متغير
في عالم يتسم بتسارع التغيرات والتحديات المتزايدة، تصبح الإدارة المؤسسية المحترفة حجر الزاوية لأي نجاح مستدام.
فالمؤسسة التي تتكيف مع المستجدات وتتبنى التفكير الاستراتيجي تضمن لنفسها الاستمرار والتفوق، بينما تلك التي ترفض التغيير وتُدار بعقلية تقليدية، فإنها تخاطر بالخروج من السباق .
لكن، بافتراض سيناريو تخيلي ماذا لو تحولت المؤسسات إلى كيانات تُدار بعقلية المصالح الضيقة، حيث تسود العلاقات الشخصية على الكفاءة؟ هنا، تتراجع المهنية، وتُصبح الفرص محصورة في دائرة ضيقة من العلاقات، مما يهدد استدامة المؤسسة ومستقبلها.
ظواهر العمل غير المؤسسى :
في بعض بيئات العمل، نجد أن المؤسسات تُدار بطريقة تشوبها الاهواء والعلاقات Relationship-Driven Management على حساب الاحترافية والانجازات ، وتُتخذ القرارات بناءً على المصالح الشخصية وليس وفقاً لمعايير مهنية. هذا المناخ يفرز واقعاً غير صحي، حيث:
• يتم تفضيل المقربين على حساب الأكفاء.
• تُهمَّش المواهب الحقيقية لصالح من لديهم علاقات نافذة.
• تُدار الموارد بطريقة عشوائية، مما يؤدي إلى انخفاض الكفاءة وهدر الفرص.
في مثل هذا النموذج، تصبح بيئة العمل منفرة، ويُقتل الدافع للإبداع، مما يضع المؤسسة على طريق التراجع بدلاً من التقدم.
البرادايم والشلل الإداري: حين تُحبس العقول في قوالب جامدة
البرادايم هو الإطار الذهني الذي نرى من خلاله العالم ونتخذ قراراتنا بناءً عليه. وعندما يصبح هذا الإطار جامداً، فإنه يؤدي إلى “شلل البرادايم” (Paradigm Paralysis)، حيث تتمسك المؤسسات بنفس الأساليب القديمة دون مراجعة أو تطوير.
عندما يُدار العمل بذهنية متحجرة، تصبح المؤسسة أشبه بكيان مغلق لا يُرحب بالأفكار الجديدة، ويستمر في إعادة إنتاج نفس الأخطاء، مما يعوق الابتكار ويحدّ من القدرة على مواجهة التحديات.
تجربة القرود الخمسة: درس في الجمود الفكري
من الأمثلة الشهيرة على تأثير البرادايم، تجربة “القرود الخمسة”، حيث وُضعت مجموعة من القرود في قفص مع موزة معلّقة في الأعلى، وكان كلما حاول أحدها الوصول إليها، يُرش الآخرون بالماء البارد. بمرور الوقت، أصبح القرود يمنعون أي فرد جديد من الاقتراب من الموزة، رغم أن الماء البارد لم يعد موجوداً!
هذا النموذج يتكرر في بعض المؤسسات، حيث تُرفض الأفكار الجديدة لمجرد أن “هذا هو ما اعتدنا عليه”، دون أي مبرر عقلاني أو منطقي.
نحو تحوّل مؤسسي مستدام: خطوات عملية
لكي تتحرر المؤسسات من قيود البرادايم الجامد وتحقق النجاح المستدام، يجب اتخاذ خطوات جادة نحو التغيير، من أبرزها:
1. إرساء مبادئ الحوكمة: تعزيز الشفافية والمساءلة لضمان اتخاذ قرارات عادلة ومنصفة.
2. إعادة تشكيل الثقافة المؤسسية: غرس قيم الكفاءة والإنجاز بدلاً من العلاقات الشخصية.
3. تعزيز الابتكار والتفكير النقدي: تشجيع الموظفين على تقديم أفكار جديدة وتقبّل الآراء المختلفة.
4. تمكين القادة الجدد: إعداد جيل من القادة الذين يدركون أن القيادة مسؤولية وليست امتيازاً.
دورة حياة المؤسسات: من البناء إلى الاستدامة أو الانهيار
تمر المؤسسات بمراحل واضحة في دورة حياتها:
• البناء (Build): حيث يتم وضع الأسس الصحيحة للتطوير والنمو.
• الحصاد (Harvest): استغلال النجاحات وجني ثمار العمل المؤسسي السليم.
• الانهيار (Die): يحدث عندما تتجاهل المؤسسة التغيرات وتفشل في التأقلم مع المستجدات.
دروس من الشركات العالمية: كيف سقطت نوكيا؟
تعد شركة نوكيا مثالاً حياً على مؤسسة لم تتمكن من مواكبة التحولات في السوق. رغم ريادتها، فإن رفضها للتغيير وعدم مرونتها في الابتكار، أدى إلى فقدانها موقعها لصالح شركات أكثر تطوراً مثل أبل وسامسونغ.
الدروس المستفادة:
• المؤسسات التي لا تتبنى الابتكار مهددة بالزوال.
• القدرة على التكيف مع المتغيرات هي مفتاح النجاح والاستمرارية.
• التفكير النقدي وتحدي القوالب الجاهزة ضروري لمواجهة التحديات المتغيرة.
تحرير العقل وبناء مؤسسات مرنة: نحو مستقبل أفضل
للانتقال من “الإدارة بالعلاقات” إلى “إدارة مؤسسية حديثة”، يجب اتخاذ إجراءات عملية، تشمل:
• تعزيز الحوكمة لضمان الشفافية والكفاءة.
• اختيار القيادات بناءً على الجدارة والكفاءة وليس العلاقات الشخصية.
• غرس ثقافة الابتكار وجعلها جزءاً من بيئة العمل.
• إعادة هيكلة القيادة لتشمل كوادر جديدة قادرة على التفكير الاستراتيجي.
• كسر الحواجز الذهنية التي تعيق التطوير، وتشجيع الأفراد على تبنّي أفكار جديدة.
الختام: من الجمود إلى العالمية
الإدارة ليست امتيازاً، بل مسؤولية تتطلب تفكيراً حراً وإرادة للتغيير. المؤسسات الناجحة هي تلك التي تحرر عقولها من القوالب التقليدية، وتفتح أبوابها للابتكار والتطور.
عندما ندرك أن النجاح المؤسسي لا يُبنى على العلاقات والمحسوبية، بل على الكفاءة والشفافية، نستطيع أن ننطلق نحو مستقبل أكثر استدامة وتقدماً، بعيداً عن جمود “القرود الخمسة” وعواقب التفكير التقليدي.
د. م. محمد سليم سالمان
استشاري الطاقة – عضو المجلس العربي للطاقة المستدامة
رئيس قطاع المراقبة المركزية للأداء بكهرباء مصر سابقاً